للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قيل له: من الذي أودع تلك المادة طبيعتها وأكسبها؟ فإنها إن كانت لها من ذاتها ومقتضى حقيقتها لم تقبل التغير والزوال؛ لأن ما بالذات لا يتغير ولا يزول، وقد رأيناها يتغير، فلا بد لها إذن من واهب يهبها، وفاعل مختار حكيم يوجدها، ويدبرها ويضعها مواضعها، وليس ذلك المادة أو خواصها وطبيعتها؛ فإنها مع حدوثها وحاجتها ليس لها من سعة العلم وكمال الحكمة وشمول المشيئة وعظم القدرة ما ينتظم معه الكون، مع ما نشاهده من إحكام تبهر العقول دقته وجماله، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر وقوة الرباط بين وحداته وكمال التناسب بين أجزائه وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيده والراعي من رعيته.

ألا إن الطبيعة صماء لا تسمع، بكماء لا تنطق، عمياء لا تبصر، جاهلة لا تعلم، مسخرة لمن أودعها المادة، خاضعة لتصريفه وتقديره، سائرة على ما رسم لها من سنن لا تعدوها ونواميس لا تخرج عنها، فأنى يكون لها خلق وإبداع! أو إليها تنظيم وتدبير! أو منها وحي وتشريع! إنما ذلك إلى الله الذي شهد العقل والفطرة بوجوب وجوده، وكمال علمه وحكمته، وغناه وقدرته، إلى غير ذلك من صفات جلاله، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} .

ولا يعيب الحق بعد ذلك أن يقل من سلك طريقه، وأن يزيغ عنه من انتكست بصيرته، وفسدت فطرته، فاتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم،

<<  <   >  >>