فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يُعْتَدُّ به: إن المفتيَ الذي تُتَلقى الأحكامُ الشرعية مِن قِبَلِه القلبُ، بل معنى الحديث: التحذير من الشُّبَهِ؛ لأن الحرام بيِّنٌ، والحلال بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهة، لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحِلِّية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حرامًا، وذلك باستنادٍ إلى الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، والحديثُ كقوله:"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَريبُكَ"، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ مَا حَاكَ في نفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ علَيْهِ النَّاسُ" رواه مسلم من حديث النَوَّاس بن سمعان -رضي اللَّه عنه-.
وحديث وابصة بن معبد -رضي اللَّه عنه- المُشَارُ إليه، قال: أتيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال:"جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ؟ " قلت: نعم، قال:"اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ ما اطْمَأنَّتْ إليْهِ النَّفْسُ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ مَا حَاكَ في النَّفْسِ، وترَددَ في الصَّدْرِ، وإنْ أفْتَاكَ النَّاسُ، وأفْتَوْكَ". قال النووي في "رياض الصالحين": حديث حسن، رواه أحمد والدرامي في "مسنديهما"، ولا شك أن المراد بهذا الحديثِ ونحوه: الحث على الوَرَعِ، وترك الشُّبَهِ، فلو التبسَتْ -مثلًا- ميتة بمُذَكَّاة، أو امرأة محرم بأجنبية، وأفتاك بعض المفتين بحلِّية إحداهما؛ لاحتمال أن تكون هي المُذَكَّاة في الأول، والأجنبية في الثاني، فإنك إذا استفتيت قلبك، علمتَ أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت، وأن ترك الحرام، والاستبراء للدِّين والعِرض، لا يتحقق إلا بتجنب الجميع؛ لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب، فهذا يَحِيك في النفس، ولا تنشرح له؛ لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى، وكل ذلك مُسْتنِدٌ لنصوص الشرع لا للإلهام.
ومِمَّا يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخرَّاز