قال ابن حجر: قوله: «أحيانا» جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله «يأتيني» مؤخر عنه. والبخاري رواه من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما. وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني» وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? [القيامة: ١٦] كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح. وأورد على ما اقتضاه الحديث -وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله. وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو - صلى الله عليه وسلم - بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه. وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء. وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له - صلى الله عليه وسلم - في المنام أيضاً على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني. وفيه نظر. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً -فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث: «إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. انظر فتح الباري (١/٦٦) .