قوله: «مثل» : المراد به الصفة العجيبة لا القول السائر. قوله: «الهدى» : أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية. قوله: «نقية» كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر «ثغبة» بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطأبي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق «نقية» بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: «طائفة طيبة» . قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروى: «بقعة» قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية» . قوله: «قبلت» : من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي: «قيلت» بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف. قوله: «الكلأ والعشب» : هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معاً، والعشب للرطب فقط. قوله: «إخاذات» : جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: «أجادب» جمع جدب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: «أحارب» قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: «أجارد» جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطأبي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي. قوله: «فنفع الله بها» أي بالإخاذات. وللأصيلي «فنفع الله به» أي بالماء. قوله: «وزرعوا» كذا له بزيادة زاي من الزرع، ولمسلم والنسائي وغيرهما «ورعوا» بغير زاي من الرعى، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية «زرعوا» تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية «رعوا» مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روى «ووعوا» بواوين، ولا أصل لذلك. وقال القاضي قوله: «ورعوا» راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات (انتهى) . ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت. قوله: «فأصاب» أي الماء. وللأصيلي وكريمة: «أصابت» أي: طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد بالطائفة القطعة. قوله: «قيعان» جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قال القرطبي وغيره: ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها» . ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يرفع بذلك رأساً» أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلاً، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولم يقبل هدى الله الذي جئت به» . وقال الطيبي: بقى من أقسام الناس قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره. والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: «من لم يرفع بذلك رأسا» والله أعلم. انظر فتح الباري (١/١٧٦ - ١٧٧) .