إنما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس من الأعمال بما يطيقون الدوام عليه، شفقة عليهم ورفقاً بهم ورحمة لهم، لئلا يتجاوز طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل مادام وإن قل، وإذا حملوا ما لا يطيقونه تركوه أو بعضه بعد ذلك، فصاروا في صورة ناقضي العهد والراجعين عن عادة جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء على حاله، ولأن الإنسان إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذذ، ونشاط لا يلحق ملل، وقد ذم الله من اعتاد عبادة ثم فرط بقوله: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ? [الحديد: ٢٧] .
وإنما قالوا:«لسنا كهيئتك» أي: كمثلك يا رسول الله ليأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة من الأعمال رغبة في الخير، فإنهم كانوا يشاهدونه - صلى الله عليه وسلم - يدأب في العبادة ويجتهد فيها مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكأنهم يقولون: أنت مغفور لك ما تحتاج إلى عمل، ومع ذلك مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة، فأمرنا بالزيادة من العمل عليك يا رسول الله، فكان إذا قالوا له هذا القول يغضب من قولهم حتى يعرفوا الغضب في وجهه، ويرد عليهم ويقول لهم: أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأتقاكم وأخشاكم لله.
وقولهم:«إن الله قد غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر» من قول الله تعالى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً