للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النحل فالتشبيه راجع إلى هيئة الخروج لا إلى الصورة وهيئتها، وهذا نظير قوله تعالى: ?كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ? [القمر: ٧] .

الفائدة الثالثة عشر: لا تزال الخصومة بين الناس حتى يختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، وأنت كنت، لولاك لم أستطع أعمل شيئاً، ويقول الجسد للروح: أنت أردت، وأنت سولت، ولولاك كنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يداً ولا رجلاً، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً لكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: أركبني فتناولهما، فإيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتها على أنفسكما، يعني: أن الروح للجسد كالمطية وهو راكبه.

مسألة مهمة: وهي هل الروح أفضل من الجسد أو الجسد أفضل منها؟

فالجواب: أن الإمام الرازي صرح في كتابه «لوامع البينات» : أن الروح أفضل منه في الكلام على مسألة الفكر والذكر أيهما أفضل؟

الفائدة الرابعة عشر: في مستقر الأرواح بعد مفارقة أجسادهما.

اعلم أن ابن عبد البر نقل عن جمهور العلماء أن الأرواح تكون عند مفارقة الأجساد على أفنية القبر (١) .


(١) أورد ابن القيم كلام ابن عبد البر في كتابه الروح (ص ١٠٠) وناقش كلام ابن عبد البر مناقشة بديعة نذكرها إتماماً للفائدة.
قال ابن القيم: وأما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبداً فهذا خطأ، ترده نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة، وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتاً، أو لها إشراف على قبورها وهي في مقرها، فهذا حق ولكن لا يقال: مستقرها أفنية القبور وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر ابن عبد البر قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي» وقد استدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.
قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا، ومثل حديث البراء ابن عازب، وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ، ومثل حديث أنس: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إانه ليسمع قرع نعالهم» وفيه: «أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعاً، ويضيق على الكافر» ، ومثل حديث جابر: «إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، أتاه ملك ... الحديث، وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبداً» ، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم.
وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدافع لها، وكل ما ذكره من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى، وعرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن الروح شأناً آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك، وروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى دائماً ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه، وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسى - عليه السلام - قائماً يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>