للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة، فانثالوا عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلامٍ سرّهم وطيّب نفوسهم، مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم، فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين، يتدارسون كلامه، ويتهافتون بشكره، ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه. وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجلٌ من جند قنسرين يستجديه فقال له: يا ابن الخلائف الراشدين، والسادة الأكرمين، إليك فررت وبك عذت من زمنٍ ظلومٍ ودهرٍ غشومٍ، قلّل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل، وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد، فقال له عبد الرحمن مسرعاً: قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كرهنا لسوء مقامك، فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك، كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية، وأمر له بجائزة حسنة، وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه، وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاهاً في مجلسه.

قال ابن حيان: ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع: أما بعد فدعني من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية، نكالاً بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.

وفي " المسهب " أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي، الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيراً. وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يحب إهماله (١) ،


(١) زاد في المقتطفات: أو تعتبر بلاغته.

<<  <  ج: ص:  >  >>