للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية، فأول ما بدأ به أن قال: بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة: إنما تعبنا أولاً لنستريح آخراً، وما أرانا إلا في أشدّ مما كنا، وأطال أمثال هذه الأقوال، وأكثر الإستراحة في جانبه، فهجره وأعرض عنه، فزاد كلامه، وكتب له رقعة منها: أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر، الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي، وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه، فوقّع عليها: " وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتاً أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به، مما قد أضجر الأسماع تكراره، وقدحت في النفوس إعادته، مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك، وزدنا في هجرك وإبعادك، وهضنا جناح إدلالك، فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى؛ فنحن أولى بتأديبك من كل أحد، إذ شرّك مكتوب في مثالبنا، وخيرك معدود في مناقبنا ". فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء، وعلم أنه لا ينفع فيه قول، ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره، وهتك حرمته وقص جناح جاهه، وصيره أهون من قعيس على عمته، ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه، تارة يستلينه وتارة يذكره، وتارة ينفث مصدوراً بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه، غير مفكر فيما يؤول إليه، إلى أن كتب له: قد طال هجري، وتضاعف همي وفكري، وأشد ما عليّ كوني سليباً من مالي، فعسى أن تأمر

<<  <  ج: ص:  >  >>