للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت، فوقّع له: إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته، ولا سبيل إلى ردّ مالك، فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة، فايأس من ذلك فإن اليأس مريح. فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس، فكتب إليه في ذلك رقعةً منها: " وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك، ممن عفوت عنه، فتبنك النعمة في ذراك، واقتعد ذروة العز، وأنا على ضدٍّ من هذا سليباً من النعمة، مطرحاً في حضيض الهوان، أيأس مما يكون، وأقرع السن على ما كان ". فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر، وكتب له على ظهر رقعته: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك، حتى ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا، ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان، وما تقوّلوه عليك، وما لك عدو أكبر من لسانك، فما طاح بك غيره، فاقطعه قبل أن يقطعك ".

ولما فتح الداخل سرقسطة، وحصل في يده ثائرها (١) الحسين الأنصاري، وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله، أقبل خواصه يهنئونه، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند، فهنأه بصوت عال، فقال: والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من


(١) المقتطفات: الثائر بها.

<<  <  ج: ص:  >  >>