للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الأصل، وغدا في يد (١) الإسلام أمضى من النّصل، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظلّ الوارف، وكساه رونق نبله، وسقاها ريّق وبله، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدراً في فلكها، وصدراً في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عبّاد، اصطفاء المأمون لابن أبي داود، وولاه الولايات الشريفة، وبوّأه المراتب المنيفة، فلمّا أقفرت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتخلّت، رحل به إلى المشرق، وحلّ فيه محلّ الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وما استفاد من آمال تلك الأطماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيبٌ ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليها وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطّردت له مقايسه، فجدّ في طلبه، واستجد به أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر متفرداً، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكرّ إلى الأندلس فحلّها والنفوس إليه متطلّعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلّدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلّدها، وقد أثبتّ من بديع نظمه ما يهز أعطافاً، وترده الأفهام نطافاً، فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد، ويخاطب فيها أهل الوداد:

أمنك سرى واللّيل يخدع بالفجر ... خيال حبيبٍ قد حوى قصب الفخر

جلا ظلم الظّلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظّلماء بالأنجم الزّهر


(١) يد: سقطت من ق ط ج، ووردت في المطمح.

<<  <  ج: ص:  >  >>