فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزودًا بهذه المراكز, كما خلق مزودًا بخصائصه الأخرى؛ كاعتدال القامة, وإدراك المعاني الكلية ... وما إلى ذلك, ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة، ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى شأوٍ كبير في الدقة والنضج، على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزج كثيرًا عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها, ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة؛ منها كثرة استخدامها في وظائفها, وما تمرن عليه من عادات مكتسبة, واتساع الحضارة الإنسانية, وارتقاء التفكير ... وهلم جرا.
فمراكز اللغة شأنها في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني، تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية, فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها, أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى.
وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته, وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته, وبخاصة ما يتصل منها بشئون دفاعه عن نفسه, وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها, وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار، ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض حيث تعرض لإغارة الحيوانات القوية وسطوها عليه, فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل, وكما تفعل أفراد فصيلته, ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته للخطر, فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى