أدراج الرياح, وفي هذا دليل على أن الطفل لا يتجه مطلقًا، في أثناء مرحلة التقليد اللغوي، إلى الانتفاع بنظره في المحاكاة اللفظية، حتى إنه ليتعذر حمله على هذا الانتفاع مهما بذلنا معه من مجهود, وفي هذا أقطع دليل على فساد النظرية التي نحن بصددها.
ومنها: أن طائفة كبيرة من الأصوات اللغوية تعتمد في مخارجها على حركات غير مرئية, تؤديها أعضاء غير ظاهرة؛ كحركات الجوف والحلق والحنك واللسان, ولذلك لا يعتمد معلمو الصم على الإحساسات البصرية وحدها، بل يلجئون كذلك إلى وسائل أخرى كثيرة، فيحاولون مثلًا أن يحس تلاميذهم كمية الهواء الخارجة من فم المتكلم، أو يطلبون إليهم أن يضعوا أيديهم على حلقومه أو صدره أو طرف أنفه أو قمة رأسه ... حتى يتاح لهم عن طريق حواس أخرى غير النظر، الذي ظهر عدم كفايته في هذا السبيل، إدراك الذبذبات الخاصة التي يحدثها كل حرف في أثناء لفظه, والتي تساعد على تمييزه والنطق به. وحتى الحروف الشفوية نفسها لا يمكن للصم محاكاتها بمجرد نظرهم لما تؤديه في أثناء النطق بها شفاه أساتذتهم من حركات, وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى كيف تتحرك شفته هو، فلا يمكنه أن يعرف أن كانت حركتها قد جاءت مطابقة للحركات التي يحاول تقليدها أم غير مطابقة لها، ولا أن يحدد مواطن الخطأ تحديدًا دقيقًا، فيتعذر عليه الوصول إلى مطابقة صحيحة, ولذلك يلجأ معلمو الصم إلى وضع مرآة أمام تلاميذهم ليتمكنوا من رؤية الحركات التي تؤديها شفاهم، ومن إصلاح ما عسى أن يكون بها من أخطاء بالقياس إلى الأصل الذي يأخذونهم بمحاكاته.
ومنها: أن تعليم الصمِّ الكلامَ لا يكلل بنجاحٍ ما إلّا مع النابهين الذين يمتازون بفرط النشاط وحدة الذكاء وصفاء الذهن وشدة الانتباه وقوة الإرادة، وتحفزهم إلى ذلك رغبة ملحة في الكلام، وحتى هؤلاء أنفسهم ينتهي تعليمهم بنتائج ضئيلة، ويخرجون بلغة ناقصة مشوهة, أما من عدا هؤلاء فلا يؤتى تعليمهم هذا آية ثمرة يعتد بها،