تتكون الدولة الإيطالية الحديثة وقبل أن يظهر سلطان روما١، وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاجٍ أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع.
وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعًا لمبلغ قرب اللهجتين أحداهما من الأخرى, ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة, فيطول أمده, ويشتد عنفه, كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين, أو قلَّت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة؛ فلهجة مدريد لم تقوَ بعد على التغلب على كثير من اللهجات الأسبانية الأخرى، ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل، والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات, ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها, وفي القسم الفرنسي اللهجة من سويسرا, لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية "فاليه، فريبورج ... Valais Fribourg"، على حين أنه قد تَمَّ انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية "نيوشاتل، جنيف ... "، وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلمًا من المناطق الكاثوليكية, وأقدم منها عهدًا بالمدارس, ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، وذلك لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقوَ بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا, ولا يزال يلقى بها مقاومة عنيفة، وذلك لكثرة الفروق التي تفصلها عنه.
هذا، ويسير تغلب لهجة على أخرى على السنن نفسه الذي يسير عليه تغلب اللغات المختلفة بعضها على بعض, والذي سنتكلم عليه في الفصل الثالث. ففي المرحلة الأولى تقذف اللهجة الغالبة اللهجة الأخرى بطائفة كبيرة من مفرداتها، فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته, ولكن اللهجة المغلوبة تظل طوال هذه المرحلة محتفظة
١ على أن روما لم تكن مهد الإيطالية الحديثة، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها.