للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقًا لدرجة تصل أحيانًا إلى القضاء على اللهجة المغلوبة, ويحدث هذا في حالتين:

الحالة الأولى:

أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى, ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة أن لا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآدابًا, والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث؛ فلهجة باريس، حيث مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس, وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الأسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية، ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات العربية الأخرى ... وهلم جرا١.

الحالة الثانية:

أن تفوق إحدى المنطقتين الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها, وفي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها, وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى, ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ القرن السادس عشر الميلادي، أي: قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة, وقبل أن تظهر غلبة برلين٢، وأخذت التوسكانية Toscan بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي: قبل أن


١ سنضرب بعض هذه الأمثلة في الفصل الثالث بصدد صراع اللغات بعضها مع بعض, وذلك لأنها تصلح أمثلة للأمرين معًا؛ فاللغات العربية مثلًا يصح اعتبار كل منها لغة مستقلة, ويصح النظر إليها على أنها لهجات قد انشعبت عن لغة واحدة, وكذلك لهجة روما قديمًا مع اللهجات الإيطالية ... وهلم جرا.
٢ على أن برلين لم تكن مهد السكسونية، بل انتقلت إليها كما انتقلت إلى غيرها.

<<  <   >  >>