للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الاجتماعية لا تنشأ من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقًا، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة الواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها ارتجالًا, وقد تابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة، ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم.

وليس لهذه النظرية أيَّ سند عقلي أو تاريخي, بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية, فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالًا ولا تخلق خلقًا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها, هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشرة بين طبقات فقيرة جاهلة, منحطة المدارك, ضعيفة التفكير, لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين ... وهلم جرا.

والحق أن "اللهجات الاجتماعية" لا تختلف في نشأتها عن "اللهجات المحلية" التي تكلمنا عليها في الفقرة الثالثة من هذا الفصل, كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية, ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده، وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث عن مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي لنشأة "اللهجات المحلية" يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف, ويمتاز به أهله من خصائص، على حين أن السبب الرئيسي في نشأة "اللهجات الاجتماعية" يرجع إلى اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد, وما يكتنف كل طبقة منها من شئون, وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة.

غير أننا قد نعثر أحيانًا في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقًا في لغة البلد, ولا في اللغات الأجنبية, ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعًا من بعض الأفراد, وانتشرت عن طريق التقليد, ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة

<<  <   >  >>