للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأسًا وأوسع نفوذًا؛ ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته فتصبح لغة جميع السكان، وإن قلّ عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب، على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاده الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين.

والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ؛ فقد نجم عن فتوح الرومان في وسط أوروبا وجنوبها وشرقها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لإيطاليا وأسبانيا وبلاد الجول Lu Gaule "فرنسا وما إليها" والألب الوسطى Alpes Centrales والأليريا lllyrie، مع أن الرومان المغيرين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين, وقد نجم عن غزو الآراميين للبلاد الناطقة بالأكادية والفينيقية والعبرية أن تغلبت لغتهم على هذه اللغات، مع أن الآراميين المغيريين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين١, وقد نجم عن فتوح العرب في آسيا وأفريقيا أن تغلبت لغتهم على كثير من اللغات السامية الأخرى, وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية٢، فأصبحت اللغة العربية لغة الحديث والكتابة في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية وفي مصر وشمال أفريقيا, وفي جزء كبير من قسمها الشرقي المتاخم لبلاد الحبشة، مع أن الجالية العربية في هذه البلاد كان عددها أقل كثيرًا من عدد السكان الأصليين.

وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبًا لإحدى اللغتين إلّا بعد أمد طويل يصل أحيانًا إلى أربعة قرون، وقد يتمد إلى أكثر من ذلك؛ فالرومان قد أخضعوا بلاد الجول La Gaule "فرنسا وما إليها"


١ انظر تفصيل ذلك في الفصول الأول والثاني والثالث من كتابنا "فقه اللغة".
٢ انظر هذه اللغات بصفحات ٢٠٢-٢٠٥.

<<  <   >  >>