في عهد بداوة العرب قبل الإسلام, وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما, وما كانت عليه في الحضر في العصر نفسه، لأصدق برهان على ذلك, وأن البدويّ الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله:
أنت كالكلب في حفاظك للعهد ... وكالتيس في قراع الخطوب
قد استطاعت قريحته بعد أن هذبتها حضارة بغداد أن تجود بمثل قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وما يحدث بين حضارة الأمة ولغتها من توافق وانسجام، يحدث مثله بين لغتها ومظاهر بيئتها الجغرافية؛ فجميع خصائص الإقليم الطبيعية تنطبع في لغة سكانها, ومن أجل ذلك نشأت فروق كبيرة في مختلف مظاهر اللغة بين سكان المناطق الجبلية وسكان الصحراء وسكان الأودية, وبين سكان المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية، ومن كذلك نشأت فروق غير يسيرة بين الفصيلة اللغوية الواحدة, بل بين لهجات اللغة الواحدة. ومن أجل ذلك أيضًا غزرت في كل لغة المفردات التي تدور حول مظاهر بيئتها الجغرافية، ودقت دلالاتها، وانبثت في شتى فنون القول, ومن أجل ذلك أيضًا كان قسط كبير من مادة الخيال والتشبيه في كل لغة مستمدًّا من مظاهر البيئة وما اختصت به طبيعة البلاد, ومن أجل ذلك أيضًا تمثل في أسلوب اللغة وفنونها الأدبية ما تختص به بيئتها الطبيعية من تلَبُّدٍ أو صفاء، وقبح أو جمال، وصخب أو هدوء، وتنوع أو اطراد، وتقلب أو ثبات، وما ينبعث عنها من رخاوة أو قوة، وخمول أو نشاط، وخشونة أو نعيم, ولهذا كله يستطيع الباحث معرفة البيئة الأولى التي نشأت فيها لغة ما على ضوء مفردات هذه اللغة وغزارتها في بعض النواحي, وجدبها في نواحٍ أخرى، وما تجنح إليه أساليبها ومادتها في الخيال والتشبيه، وخواص آدابها ... وما إلى ذلك.