للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإليك مثلًا لغات الفصيلة السامية؛ ففي كل لغة منها تتمثل حالة البيئة التي سكنها الناطقون بها؛ فالآرامية التي نشأت في الشمال جافة الألفاظ، قليلة المفردات، ثقيلة التراكيب، مضطربة القواعد، لا تكاد تواتي الأساليب الشعرية الراقية، والعربية التي نشأت في الجنوب أعذب اللغات السامية ألفاظًا، وأغناها مفردات، وأدقها قواعد، وأكثرها مرونة واتساعًا لمختلف فنون القول. والعبرية التي نشأت في منطقة متوسطة بين هاتين المنطقتين تمثل في رقيها منزلة بين منزلتي الآرامية والعربية، فقد فاقت الأولى ولكنها قصرت عن أن تدرك شأو الثانية؛ فألفاظها وأساليبها تتسع لكثير من مناحي القول، ولكن العربية تفوقها في مرونة التعبير، والترف اللغوي، وسعة الثروة في المفردات, وقواعدها سهلة مضبوطة, ولكنها لا تبلغ في دقتها وتنوعها مبلغ قواعد اللغة العربية, وتظهر هذه الفروق حتى في ناحية الأصوات؛ فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تلتقي في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة, والعربية عذبة الأصوات، سهلة النطق، خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة١، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان, والعبرية وسط بين هذه وتلك؛ فهي لم تصل في سهولة اللفظ إلى درجة العربية ولا في صعوبته إلى درجة الآرامية، يتخلل كلماتها حروف المد في نطاق أوسع من الآرامية، وبدرجة تذلل كثيرًا من ظواهر الصعوبة في النطق, ولكن بدون أن تصل في هذه الناحية إلى الشأو الذي وصلت إليه لغة القرآن٢.

ولهذا السبب نفسه اختلفت اللهجات الإغريقية القديمة, فعلى الرغم من أن بلاد الإغريق كانت تشغل منطقة ضيقة، فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد


١ تكثر في الكلمات العربية أصوات المد الطويلة "الألف والياء والواو" والقصيرة "الفتحة والكسرة والضمة" حتى إنه ليقل وجود حرف غير متبوع بواحد منها.
٢ V. Renan, L ُ Origine du Langage, pp. l٨٨-l٨٩

<<  <   >  >>