هذا، وقد كشف بعض الباحثين أنواعًا أخرى غريبة من التفاهم بين الحيوان؛ فمن ذلك ما يمكن تسميته التفاهم بالرائحة؛ فقد ذكرعلماء الحيوان أن الذئب إذا زاد طعامه عن حاجته دفن جزءًا منه في التراب, وخلَّف هناك شيئَا من رائحته عالقًا بالمكان، فيفهم سائر الذئاب فحوى رسالته حق الفهم، والذئب يفصح عن نفسه مرةً بعد أخرى بأن يخلف رائحته حيث يريد, فتفهما الذئاب أجود الفهم، كما يفهم الرحالة من الناس إذا قرأ مذكرات كتبها رجل سبقه إلى هذه الرحلة. والذئاب والثعالب، وهي في الحقيقة من فصيلة الكلاب، تعيش في عالم لا تعد أرضه أرضًا فحسب, بل هي أرض مفعمة بالرائحة المعبرة. ويقول الأستاذ ف. بايتندجك الهولندي, الذي تولى التجارب الشهيرة في دراسة نفسية الكلاب: "إن الكلب مشغول أبدًا بحديثٍ لا ينقطع بينه وبين سائر الكلاب التي في ناحيته عن طريق الشم". "مجلة المختار، عدد أكتوبر سنة ١٩٤٧". وأغرب أنواع التفاهم بين الحيوان, هو ما يكون بغير صوت ولا رائحة ولا إشارة ولا أية حركة أخرى, وفي هذا النوع يقول الأستاذ ألن ديفو: "وقد ذهب بعض علماء الحيوان إلى أنه ضرب من الاستشفاف "تليباثي". وذهب آخرون إلى أنه ليس إلّا ضربًا من الحواس اللطيفة التي بلغ لطفها مبلغًا تعجز عن إدراكه حواس الإنسان، وينكر آخرون ذلك كله إنكارًا باتًّا, وأستطيع أنا أن أروي غير متحيز إلى فئة خبر هرتين عندي, هما "سيم" و"سام" بينهما علاقة لا تنفصم من الأخوة والود، وهما لا يختلفان ولا يفترقان إلّا في شيء واحد: فإن "سيم" يحب الخروج إلى الصيد، أما "سام" فيحب الكسل، فيقضي الساعات قابعًا في البيت, ولكن بعد الشقة بيهما حين يفترقان, لا يمنع فيما يظهر أن يظل بينهما ضرب من التفاهم والاتصال, فقد يخرج "سيم" أحيانًا يتصيد، فيغيب نصف يوم، وإذا بي أرى "سام" يهب من مضجعه على مكتبي يقظان فزعًا, ويرفع أذنيه متلهفًا، ويمل برأسه كالمنصف المصغي، وما هو إلّا أن يعدو نحو الباب، فإذا فتحت له الباب انطلق كأنه سهم مقذوف إلى الحقول تارةً, وإلى الغابة تارةً أخرى. لو بدا لي أن أخرج في أثره لما خامرني ريب فيما سوف أجد؛ فهذا الصياد "سيم" قد ولى وجهه شطر البيت ومعه صيد صاده لساعته, فعرف "سام" خبر صاحبه، وإن كنت لا أدري كيف عرف, قد تقول إنه عجب لا يصدق, نعم ربما كان كما تقول! ولكن ما أكثر ما نجهل مما يدور في طوايا حواس الحيوانات ونفوسها، حتى لنرى أن أكثر العلماء علمًا وتجربة لا يصر إصرار العنيد على إنكار اللغة الصامة التي يتفاهم بها حيوان الغاب، أيًّا كانت طبيعة تلك اللغة. "مجلة المختار عدد أكتوبر ١٩٤٧-ص٤٨". ومن هذا الننع كذلك ما دونه الأستاذ ألن ديفو عن الثعالب؛ إذا يقول: "وقفت مستترًا ببعض الشجر أرقب ثلاثة من صغار الثعالب تلعب, وأمهن على الوجار تتبعهن البصر راضية مطمئنة، فإذا بصغير يعدو موغلًا في المرج، وكان أصغر من أن يباح له أن يخرج وحيدًا يطوف في أرجاء هذا العالم. فاستوت الأم قائمة، وسددت أنفها إلى الناحية التي ذهب فيها، وبقيت على هذه الهيئة ساكنة صامتة لا تتزحزج، ولم يند عنها صوت يسمح، ولكن لم ألبث قليلًا حتى رأيت الصغير عائدًا أدراجة