للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا شك أن تفريق النص الذي يراد حفظه ييسر الأمر على من يريد أن يحفظه، لكن ذلك قد لا ينطبق على الواقع، فقد صرح القرآن أن حفظ الوحي مكفول للنبي صلى الله عليه وسلم كما مر ذلك، والله تعالى يقول: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) [الأعلى] و (لا) هنا نافية، والآية تعني أنك تحفظه ولن تنساه، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ (١٨٨) [الأعراف].

والدارس اليوم والمتأمل لتاريخ الدعوة تتجلى أمامه حكمة نزول القرآن مفرقا، بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنسبة إلى المؤمنين، فالدعوة الإسلامية جاءت لتصلح أوضاع البشرية الفاسدة في العقيدة والسلوك والتشريع، ولا يناسب تحقيق ذلك إلا الدعوة المتأنية، قال الله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) [الإسراء] أي لتقرأه على الناس على تؤدة، فترتله وتبينه ولا تعجل في تلاوته (١).

وتلك في الواقع هي الطريقة التربوية الوحيدة الممكنة في حقبة تتسم بميلاد دين وبزوغ حضارة، فكان الوحي خلال ثلاثة وعشرين عاما يهدي سير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خطوة خطوة نحو هذا الهدف، وهو يحوطهم كل لحظة بالعناية الإلهية المناسبة، فهو يعزز جهودهم، ويقوي إرادتهم، حتى تكلل ذلك الكفاح بالنصر المبين، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم (٢).

جاء هذا القرآن ليربي أمة، ويقيم لها نظاما، وجاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد الاستمتاع العقلي ولا لمجرد المعرفة، ومن ثم جاء هذا القرآن وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة، وهي في طريق نشأتها ونموها، ووفق استعدادها الذي كان ينمو يوما بعد يوم في ظل ذلك المنهج التربوي الإلهي الدقيق.


(١) ينظر: الطبري: جامع البيان ١٥/ ١٧٩.
(٢) مالك بن نبي: الظاهرة القرآنية ص ٢٢١ - ٢٢٢.

<<  <   >  >>