للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أدرك الصحابة تلك الحكمة التربوية من نزول القرآن الكريم مفرقا، وهم الذين عاشوا تجربة تلقي القرآن على ذلك النحو، فلمسوا ثمار ذلك المنهج عمليا في حياتهم، قالت السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، كما جاء في صحيح البخاري: « ... إنما نزل أوّل ما نزل منه (أي من القرآن) سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) [القمر] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ... (١).

قال ابن حجر في شرحه للحديث: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام ... » (٢).

لم يكن نزول القرآن الكريم مفرقا مصادفة إذن، ولم تكن تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن على الناس على مكث وأناة دون حكمة، فقد ظل القرآن ينزل في مكة مدة ثلاث عشرة سنة وهو يعالج أسس العقيدة وأصول الدين، حتى إذا استوفت هذه القضية ما تستحقه من البيان واستقرت في قلوب الجماعة المؤمنة استقرارا مكينا ثابتا، نزلت الآيات تفصّل ما يتعلق بنظام الإسلام في الحياة، فكانت النفوس المؤمنة تتلقى التشريعات بالرضا والقبول، فأبطلت الخمر وأبطل الربا وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من الرسول صلى الله عليه وسلم بفضل ذلك المنهج التربوي الرباني العظيم.


(١) ابن حجر: فتح الباري ٩/ ٣٩.
(٢) فتح الباري ٩/ ٤٠.

<<  <   >  >>