بني العبّاس تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخَلق، لطيف الخُلق، كامل الظرف، فصيح اللّسان، بليغ البيان، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة. كانت أيامه غرّة في وجه الدّهر، ودرّة في تاج الفخر، أحيا هيبة الخلافة وكانت قد ماتت بموت المعتصم ثم ماتت بموته، أجاز الناصر الرواية لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه، منهم ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن النجار، وابن الدامغاني، وآخرون.
وقال سبط ابن الجوزي وغيره: قلّ بصر الناصر في آخر عمره، وقيل: ذهب بالكلّية، ولم يشعر بذلك أحد من الرّعية، حتّى الوزير وأهل الدّار، متهم بالتشيع والله أعلم (١).
الملك الخامس والثلاثون من ملوك بني العباس: الظاهر: الخامس والثلاثون من خلفاء الدولة العباسية، وهو محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بن المستنجد بن المقتفي.
كان قد عهد الناصر أولا إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر، وخُطب له على المنابر، ثم عزله عن ذلك بأخيه علي، فتوفي علي في حياة أبيه سنة ثنتي عشرة، فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخُطب له ثانيا، فحين توفي والده بويع بالخلافة، وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة، فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، ولما ولي الخلافة، أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا، رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا، وأسقط الخراج الماضي عن الأراضي التي قد تعطلت، ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي بعقوبا
(١) مضمار الحقائق وسر الخلائق ١/ ٤، والبداية والنهاية ط إحياء التراث ١٢/ ٣٧٤، ٣٧٥، وسمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي ٣/ ٥١٠، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب ٧/ ١٧٢، ١٧٣.