وروى ابن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلَى القُسْطَنْطينية عرض عَلى الروم أمورًا: إما الإسلام، وإما الجزية، وإما أن يصالح النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلى الشام ويبقي لهم ما دون الدَّرْب، فأبوا، وأنه انطلق حَتَّى إذا أشرفَ عَلى الدَّرْب استقبلَ أرض الشام، ثم قَالَ: السلام عليكم أرض سُورية -يعني: الشام- تسليم المودع، ثم [٤٤/ ب] ركض حَتَّى دخل القُسْطَنْطِينية (١).
واختلف الإخباريون هل هو الَّذِي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو أبيه، والأظهر أنه هو.
* تنبيه:
لما كَانَ أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مستبهمًا؛ لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف عَلى نفسه، ويحتمل أن يكون استمر عَلى الشك حَتَّى مات كافرًا، وَقَالَ الراوي في آخر القصة:"فكان ذَلِكَ آخر شأن هرقل"، ختم البُخَاريّ هذا الباب الذِي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قَالَ: إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر، فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن النَّاطُور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدَّر الباب به، ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه.
فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟
والجواب: أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذَلِكَ الابتداء، ولأن الآية المكتوب بِها إلَى هرقل ملتئمة مع الآية الَّتِي في الترجمة، وهي قوله تعالَى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الآية [النساء: ١٦٣]. وَقَالَ تعالَى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: ١٣]. فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالَى:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: ٦٤].