وأقدم بعض غلاة الصوفية عَلى تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلَى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لَم تكن، أي: فإن لَم تَصِرْ شيئًا، وفنيت عن نفسك حَتى كأنك ليس بموجود، فإنك حينئذ تراه.
وغفل قائل هذا -للجهل بالعربية- عن أنه لو كَانَ المراد ما زعم لكان قوله:"تراه" مَحذوف الألف؛ لأنه يصير مَجزومًا؛ لكونه عَلى زعمه جواب الشرط، ولَم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم عَلى خلاف القياس فلا يصار إليه؛ إذ لا ضرورة هُنَا، وأيضًا فلو كَانَ ما ادعاه صحيحًا لكان قوله:"فإنه يراك" ضائعًا؛ لأنه لا ارتباط له بما قبله.
ومما يفسد تأويله رواية كَهْمَس، فإن لفظها:"فإنك إن لا تراه فإنه يراك"، وكذلك في رواية سليمان التيمي، فسلط النفي عَلى الرؤية لا عَلى الكون الَّذِي حَمَل عَلى ارتكاب التأويل المذكور، وفِي رواية [أبي](١) فَرْوَة: "فإن لَم تره فإنه يراك"، ونَحوه في حديث أنس، وابن عباس، وكل هذا يبطل التأويل المتقدم، والله أعلم.
* فائدة:
زاد مُسْلِم في رواية عُمَارة بن القعقاع قول السائل:"صدقت" عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فَرْوَة في روايته:"فلما سمعنا قول الرجل: صدقت؛ أنكرناه"، وفي رواية كَهْمَس:"فعجبنا له يسأله ويصدقه"، وفِي رواية مطر: انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفِي حديث أنس: "انظروا هو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه"، وفِي رواية سليمان بن بُرَيْدة: "قَالَ القوم: ما رأينا رجلًا مثل هذا كأنه يُعلِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: صدقت صدقت".
قَالَ القرطبي: إنما عجبوا من ذَلِكَ؛ لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عُرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه؛ لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا [٩٩ / أ] من ذَلِكَ تعجب المستبعد لذلك.