أخرى، وإذًا لكانت على حد تعبير العلماء "تخلية" بلا "تحلية"، أو تجارة مأمونة الخسارة، ولكنها لا ربح فيها ولا غنيمة.
فهل شريعة الصيام في الإِسلام هى تلك الصور العارية الجرداء؟
كلا .. إنها عبادة ذات شطرين، وليس شطرها الأول إلا تمهيدًا وإعدادًا لشطرها الثاني، إنها شجرة جذعها الصبر، ولكن الله لا يريد للصائم أن يترك هذا الجذع قاحلًا ماحلًا، بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصانًا من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر، وإن من تأمل كلمة التقوى التي عبر بها القرآن الكريم في حكمة الصيام، يجدها منطوية على هذين الشطرين.
فهي في شطرها الأول: كف وانتهاء، وابتعاد واجتناب.
لكنها في شطرها الثاني: إقبال واقتراب، وإنشاء وبناء.
وإذًا فليس الشأن كل الشأن في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى في نفسه؛ فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران؛ ولكن الشأن الأعظم في أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحًا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينًا لكلمة الحق والهدى، فتلك هي مفاتيح أبواب الجنان.
ومن كان في شك من أن هذا الجانب الإيجابي، هو الهدف الأخير لشريعة الصوم، فليقرأ كتاب الله يجد دلائله مبثوثة في تضاعيف آيات الصيام، وليطالع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يجد معالمه مبسوطة في هديه النبوي قولًا وفعلًا، والعجيب في هذا التوجيه أن الإِسلام لم يترك الأمر بالصيام دعوة مرسلة، بل وضع له مناهج معينة، ورسم له خططًا مفصلة؛ ذلك أنه لمَّا جعل شهر الصيام موسمًا لانطلاق الروح من عقالها؛ فتح فيه للأرواح بابين تتدفق منهما: بابًا إنسانيًّا، وبابًا ربانيًا.
فأما انطلاق الروح الباب الإنساني: فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون