للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كأنه لم يزل نائمًا طول ليلته لم يعمل شيئًا" (١). انتهى كلام طبيب القلوب وريحانة المتهجدين ابن القيم رحمه الله.

بكاؤهم .. وبحرُ الدُّمُوِع:

ولا يُذكر الليل إلا ويقارنه ذكرُ الدموع، والبكاءُ من أعظم ما تقرب به العابدون، واسترحم به الخائفون، ومن أرق من المتهجدين أفئدة حين أتخذوا من الدمع رسولهم لربهم، فالدمعُ ألَحُّ شفعائهم، فقد كاتبوا الله بدموعهم وهم ينتظرون الجواب.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" (٢)، قيل لصفوان بن محرز عند طول بكائه وتذكر أحزانه: إن ذلك يورث العمى، فقال: ذلك شهادة لها فبكى حتى عمي.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما عاشرت رجلًا أرق قلبًا من سفيان الثوري، وكنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فما كان ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض مرعوبا ينادي: النار .. النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات، ثم يتوضأ ويقول على إثرِ وضوءه: اللَّهم إنك عالمٌ بحاجتي غير مُعَلَّم، وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار، إلهي، إن الجزع قد أرقني، وذلك من نعمك السابغة علي، إلهي، لو كان لي عذر في التخلي، ما أقمت مع الناس طرفة عين، ثم يُقْبِل على صلاته، وكان البكاء يمنعه من القراءة حتى إن كنتُ لا أستطيع سماع قراءته من كثرة بكائه.


(١) طريق الهجرتين (٢٠٥ - ٢١١).
(٢) أخرجه أبو يعلى (٧/ ٣٠٧)، وصححهُ الألباني (٤١١٣) في "صحيح الجامع".

<<  <   >  >>