للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على الوصول إليه، فلم تزل ساجدةً حتى قيل لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي في عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: ٢٧ - ٣٠]، فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد ما بين المشرقين والمغربين، بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين، وتلك مواهب العزيز الحكيم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: ٤].

ثم يقول: وهكذا يجد لذةً غامرةً عند مناجاة ربه، وأُنسًا به، وقربًا منه، حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره، ويعتذر إليه تارة، ويتملقه تارة، وُيثني عليه تارة، حتى يبقى القلبُ ناطقًا بقوله: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، من غير تكلفٍ له بذلك؛ بل يبقى هذا حالًا له ومقامًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" (١).

وهكذا مخاطبته ومناجاته له، كأنه بين يدي ربه، فيسكن جأشه ويطمئن قلبه، فيزداد لَهَجًا بالدعاء والسؤال، تذللًا لله الغني سبحانه، وإظهارًا لفقر العبودية بين يدي عز الربوبية؛ فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه؛ لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوفٌ على سؤاله ..

بل هو المتفضل به ابتداء بلا سبب من العبد، ولا توسط سؤاله وطلبه، بل قدَّر له ذلك الفضل بلا سبب من العبد، ثم أمره بسؤاله والطلب منه إظهارًا لمرتبة العبودية، والفقر والحاجة، واعترافًا بعز الربوبية، وكمال غنى الرب، وتفرده بالفضل والإحسان، وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة العين، فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤاله شيئًا، ولكن ربه تعالى يحب أن يُسْأل، ويرغب إليه، ويطلب منه ..


(١) متفق عليه، البخاري (٤٤٩٩)، ومسلم (٨).

<<  <   >  >>