ولقيت الشيخ فإذا هو فوق ما وُصف لنا، وإذا لسان مبين ولغة معربة وحديث، كأنك تقرأ في «البيان والتبيين» أو في «عيون الأخبار». ولقد خضنا معه كل بحر وعرجنا على كل منزل، فسألته عن الشعر واستطلعت رأيه في جديده، وسأله بعضُ من حضر عن مسائل من اللغة والنحو وعرض عليه أشياء من تمحّلات النحاة وغلاظاتهم، فأجاب بأسَدّ جواب وأحكمه، فما كان أعجبَ من سؤال السائل إلا جوابه هو، وما تقول فيهما إلا الأصمعي يشافه بُلَغاءَ الأعراب من أهل زمانه.
وإني أروي هنا طرفاً من حديثه في الشعر بكلامي أنا لا ببيانه هو، فما استطعت حفظ ما قال بحروفه.
* * *
قلت له: كيف أنت والشعر؟
قال: أما ما قالت العرب فإني أرويه كله لا أخْرِم منه شيئاً، وأما ما قال المُحْدَثون بعدَ إذ فشا اللحن في الأمصار وعمَّت -فيما بلغنا- العُجْمَةُ فلا أعرفه ولا أرضى لنفسي روايته، لأن أصحابه أفسدوا على العرب ديوانهم وجاؤوهم بما ينكرون من القول.
قلت: ولكنك رجل عادل حصيف، أفلا تسمع قول هؤلاء المحدثين قبل أن تحكم عليهم؟
قال: بلى والله، إني سامع فأنشدني.
فنظرت، فكأنّ الله محا الشعر كله من قلبي إلا أبياتاً لأبي تمام في وصف الربيع نُرَوّيها التلاميذَ، فأنشدته إياها وفي ظني أنه