للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لا يرضى عنها لأنها ليست مما ألف، ولو أنشدته لغير أبي تمام أو أنشدته لأبي تمام غيرَها لكان ذلك أدنى إلى رضاه، ولكنْ ماذا أصنع وقد نسيت كل ما جاوزها من الشعر؟ قلت:

مطرٌ يذوبُ الصَّحْوُ منه وبعدَه ... صحوٌ يكاد من الغَضارة يُمطِرُ

غَيْثانِ؛ فالأنواءُ غيثٌ ظاهر ... لك وجهُهُ والصَّحْوُ غيثٌ مُضْمَرُ

فرأيته قد طَرِبَ لها طرباً لم يُخْفِه وتمايل وصفق يداً بيد من الإعجاب، فقلت وقد قَوِيَت نفسي: كيف سمعت؟

قال لقد أحسن وجاء بما لم يسبقه إليه سابق، وما أحسبه يلحقه فيه فيدرك شأوَه لاحق. لقد عرف الناس ثلجاً يذوب، فأذاب لهم الصحو حتى سال ماءً، ثم عاد فجعل الصحو من طراوته كأنه يمطر، فلم يخلِّهم في المطر من صحو ولا في الصحو من مطر. ثم أصَّلَ وفرَّعَ، فجعل من الغيث ظاهراً ومُضمَراً، وما يكون مضمَر إلا وثمّةَ ضمير، ولا ضمير إلا في حيّ، أفلا تراه قد أسبغ الحياة على الجماد؟

قلت: هذا مذهب في الشعر يعرفه أهل زماننا ويحسبون أنهم ابتكروه، يعطيك صورة جميلة ولكنها ليست بَيِّنَة الحدود ولا واضحة المعالم، فأنت تستمتع فيها بكشف المجهول (وهو -?لَعَمري- أصل الآداب وأقوى الغرائز)، ثم تملأ فراغها بعواطفك وتجعل حدودها من أفكارك، فتكون كأنك صغتها لنفسك وتفهم منها ما لا يفهم سواك

<<  <   >  >>