أم كنت -أيها الإنسان- ملكاً يضيء على مفرقه التاج المحلّى بالدّر، ويلمع تحته السرير المصنوع من الذهب، إذا أمر تقاتلوا على السبق إلى طاعته، وإذا اشتهى شيئاً أسرعوا إلى تحقيق شهوته، وإذا مرض لم يكن للناس حديث إلا حديث مرضه، وإذا أبَلَّ لم يكن سرور إلا ببشرى إبلاله، وإذا قام أو قعد أو قدم أو ذهب لهجت الألسن بقيامه وقعوده واشتغلت الصحافة بذهابه وقدومه، وإذا مشى في الطريق لم يمشِ على رجليه كما كان يمشي أبونا آدم عليه السلام وكما تمشي ذريته من بعده، ولكنه كان يمشي على رؤوس الناس الذين يحسّون -لفرط الإجلال أو لفرط السخط- بأنه يمشي على رؤوسهم جميعاً؟
أم كنت -أيها الإنسان- صعلوكاً حقيراً عاش على هامش الحياة ودُفن في حاشية المقبرة، فلم يحسّ أحد بحياته ولم يَدْرِ أحد بمماته، ولعل حياته أشرف حياة لأنها حافلة بالفضائل مترعة بالشرف، فكان يكدح طول نهاره ليحصل خبزه وخبز عياله، فيأكله مأدوماً بعرق جبينه، لا يؤذي أحداً، ولا يسرق مال الدولة، ولا يتخذ وظيفته جسراً إلى تحقيق شهواته وتحصيل لذاته ... ولعل موته أشرف موت، لأنه مات مجاهداً وسط المعمل أو سقط وفي يمينه المعول.
انظر يا صديقي، التفت إلى يمينك. إن الملك الذي طالما خفتَه وأكبرته وأعظمت زينته وبزّته وشارته وحليته، فملت عن طريقه ولم تجرؤ على رفع نظرك إلى طلعته الكريمة، إنه معك في هذه الخزانة، قد نُزع عنه ثوب المُلْك والبهاء وعاد مثلك: لا الملك دام له ولا دام الغنى!