كلها ساعة من عمر الشمس ... فما هي الساعة إذن؟ ما هو العام؟ ما هي حقيقة الزمان؟ وما هو المكان؟ إني لم أرَ مكاناً قط، ولم أرَ إلا موجودات لا أعرف نهايتها ولا أدرك آخرها. فكيف لي أن أرى مكاناً ليس فيه شيء؟ ما حقيقة المكان والزمان؟ ما عمرهما؟ ماذا وراءهما؟ ألا أستطيع أن أعرف هذا العالم الهائل، الذي تحجبه عن عيني هذه الطبيعة كما تحجب الكفُّ الدنيا الواسعةَ وهي كف واحدة؟ (١).
وضجرت من هذه الفلسفة، فانصرفت عن العقل وتركته يهذي وحده. وكنت قد بلغت البحر، فوقفت في حِجْر الطبيعة أتأمل وأناجي وأحلم.
لقد نفضت يدي من الناس ولجأت إلى هذه الطبيعة السخيّة
(١) حين ذكر هذه المقالة في «الذكريات» ونقل منها فقرات قال في هذا الموضع: "إنني أعرف أشياء كثيرة تملأ المكان، ولكن ما هو المكان؟ وحوادث كثيرة على مدى الزمان، ولكن ما هو الزمان؟ فإذا كنت لا أعرف روحي التي أعيش بها، لا أدري ما هي، ولا أدري ما الزمان الذي هو رأس مالي ولا المكان، فما سعيُنا وما عملنا؟ ألسنا مثل القافلة التي جُنّ أهلوها فانطلقوا يركضون، لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلا إذا هدّهم التعب فسقطوا كالقتلى نائمين؟ كذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة، نتسابق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق؛ نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير! إن كل ما في الدنيا يذهب إن ذهبنا، لا يبقى لنا إلا ما قدّمنا لآخرتنا". انظر الذكريات: ٣/ ٢٥١ (مجاهد).