الكون ولا أن يقرر لنفسه المصير. الصخرة لا تتحرك والسيارة تتحرك، فنحن لا ننكر حركة السيارة ولا حرية سائقها في التوجه بها، ولكن ليس معنى هذا أن يخترق بها الجبل ولا أن يمشي بها على وجه الماء. إن السيارة تمشي بـ «حرّية» سائقها و «اختياره»، ولكنها لا تمشي إلا على الطريق، وتسرع ولكنها لا تجاوز في سرعتها الحد الأقصى الذي حدده «مصنعها» لسيرها.
وكذلك الإنسان؛ إن له حرية واختياراً، ولكنه لا يستطيع أن يسلك إلا الطريق الذي تشقّه له الأقدار، وله مقدرة ولكنها في حدود المقدرة التي أعطاها الله للإنسان. إنه كراكب الزورق في البحر؛ يوجّهه حيث شاء، ولكن قد تضربه موجةٌ عاتية فتحوّل وجهته من اليمين إلى الشمال، وكذلك تصنع الأيام بزوارق الأحلام.
كنت في مصر وقد رسمت طريقي وحدّدت وجهي: أن أكمل الدراسة في دار العلوم وأعمل في الصحافة، وإذا بموجة تلطم صدر زورقي فتعيدني إلى دمشق، فأدخل فيها كلية الحقوق، وأغامر في السياسة، وأقود الطلاب جميعاً إلى ساح النضال، وأحترف الصحافة، فأكتب في «فتى العرب» عند مؤلف «سيد قريش» وفي «ألف باء» عند باقعة الصحافة في الشام (١)، ثم أتولى التحرير الداخلي في الجريدة الوطنية الكبرى التي أصدرتها
(١) الأول هو معروف الأرناؤوط والثاني يوسف العيسى، وانظر الحلقات ٣٥ - ٣٧ من الذكريات (في آخر الجزء الأول) ففيها تفصيل هذا الإجمال (مجاهد).