والقولُ الشاذُّ يَرى أنَّ حقيقةَ الثبوت مغايرة لحقيقة الحكم، ومع تغايرِ الحقائق لا يمكن القولُ بحصول أحدِ المتغايرين عند حصول الآخر إِلَّا أن يُجزَم بالملازمة، واللزومُ غيرُ موثوق به، لإحتمال أن يكون عند الحاكم ريبة ما علمنا بها، ولا يَلزمُ من عَدَمِ العلم بالشيء العلمُ بالعَدَم، فيُتوقَّفُ حتى يَحصُلَ اليقين بالتصريح بأنه حُكم.
هذا في الصُّوَر المتنازَعِ فيها التي حكَمَ الحاكم فيها بطريق الإِنشاء (١).
اْما الصُّوَرُ المجمَعُ عليها، كثبوتِ القيمةِ في الإِتلاف، والقتلِ للقِصاص، وثبوتِ الدَّينِ عنده في الذمة وعقدِ القِراض، والسرِقة للقطع، فالثبوتُ الكاملُ في هذه الصُّورِ جميعِها لا يَستلزمُ إنشاءَ حكم من جهة الحاكم، بل أحكامُ هذه الصور جميعِها مقرَّرةٌ في أصل الشريعة إِجماعاً.
ووظيفةُ الحاكم في هذه الصور إِنما هو التنفيذ، وفيما عدا التنفيذ: الحاكمُ والمفتي فيه سواءٌ، وليس هاهنا حُكم استنابَ صاحبُ الشرع فيه الحاكمَ أصلاً البتة، بل هذه أحكامُها تَتْبَعُ أسبابَها، كان ثَمَّ حاكمٌ أم لا؟
نعم، الذي يقفُ على الحاكم: التنفيذُ. مع أنه غيرُ مختص به في الدَّيْن وشِبهِه، فلو دَفَعَ المُتلِفُ القيمةَ والمَدينُ الدَّينَ وسلَّم البائعُ المبيعَ استُغنِيَ عن مُنفِّذٍ من حاكمٍ أو غيرِه.
وإِنما يُحتاجُ إِلى الحاكم في الصُّوَر المجمَع عليها إِذا كانتْ تفتقر إِلى نظرٍ واجتهادٍ وتحريرِ أسباب، كفسخ الأنكحة، أو كان تفويضُها للناس يؤدّي إِلى التهارُجِ والقتال، كالحدود والتعازير، مع أنَّ التعازير من القسم
(١) لفظ (فيها) زيادة مني، وليس هو في الأصول الأربعة، ثم رأيته موجوداً في نسخة (ر). فالحمدُ لله على توفيقه.