ثم أكرمني الله تعالى بتوفيقه في مَدَى سنواتِ طويلة، فرأيتُ نصوصاَ كثيرة ومتعددةَ المصادر، من كلام أهل القرن السابع والثامن والتاسع والعاشر، استعملوا فيها (التحدُّثَ) بمعنى (التصرُفِ) تماماَ، وعطفوا (التصرُفَ) عليه، ورادَفُوا بينهما، فتبين لي من تلك النصوص: صِحةُ هذا اللفظ والجزمُ بمعناه، وأنه كان شائعًا في مخاطباتِ الناس ومكاتباتِهم في القرن السادسِ وما بعده، فأدخله المؤلف في كلامه، لشيوعِهِ في لُغَةِ التخاطُب والكتابةِ في عَصرِه ومصره، دونَ مراعاةِ منه إلى أنَّ استعمالُه لغوياً ليس صحيحًا وأن الشأنَ في لغة التأليف والعلم تجنُّبُ ذلك فيها، وها أنا ذا مُورِد طائفةَ من تلك النصوص للإِفادة والإستدلال: ١ - جاء في أوائل "المحصول في علم الأصول" للإِمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في المقدمات قولُه: "الفصلُ الثامن في أن شكرَ المنعِم غيرُ واجب عقلًا، وقالت المعتزلة: بوجوبه عقلًا. ولنا: النص والمعقول ... بل احتمالُ العقابِ على الشكر قائمٌ من وجوه: أحدُها: أنَّ الشاكر مِلْكُ المشكور، فإقدامُه على تَصَرُفِ الشُّكرِ بغير أذنِهِ: تصرُفٌ في مِلْكِ الغير بغير إذنِهِ من غير ضرورة، وهذا لا يجوز" انتهى. وقوله هنا: (فإقدامُه على تَصَرُفِ الشكر) معناه: على إحداثِ الشكر، كما تُعَيِّنُهُ القرائن والسياق. ثم أقول استطراداً ومناقشةَ لقوله - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (شكرُ المنعم غير واجب عقلًا)، بل هو واجب عقلًا وشرعًا، ومركوز في الفطرة الإِنسانية خِلقةَ، وأين قولُه هذا من قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشكرُ اللهَ من لا يَشكر الناسَ" وأكتفي بهذا فلا يتسع المقامُ لأكثر منه. ٢ - وجاء في "رَفْع الإِصْر عن قُضَاةِ مصر" ٣٢٨:٢، للحافظ ابن حجر =