فكذلك قولُه: فُتِحَتْ مصر أو مكة عنوةً، شهادةٌ. وإذا كانت شهادة فمالك لم يباشِر الفتح، فيتعين أنه نَقَل هذه الشهادة عن غيره، ولا يُدرَى هل أَذِنَ له ذلك الغير في النقل عنه أم لا؟ وإن سلمنا أنه أَذِن له، فقد عارضَتْ هذه البيّنَةَ بيّنةٌ أخرى، وهي أن الليث بن سعد والشافعي وغيرهما قالوا: الفتحُ وقع صُلحًا. فهل يمكن أن يقال: إن إحدى البينتين أعدل فتقدم؟ أو يقال: هذا لا سبيل إليه، والعلماءُ أجلُّ من أن نفاوت نحن بين عدالتهم؟ ولو سلَّمنا الهُجومَ عليهم في ذلك، فالمذهَبُ أنه لا يُقضَى بأعدل البينتين إلَّا في الأموال. والعَنْوَةُ والصُّلحُ ليسا من هذا الباب. فلم قلتم: إنه يُقضَى فيه بأعدل البينتين؟ ولا يمكن أن يقال: إن هذه الشهادة نقلًا عن أحد، بل هي استقلال ومستنَدُها السماع، لأنا نمنع أن هذه المسألة مما تجوز فيه الشهادة بالسماع. وقد عَدَّ الأصحاب مسائل السماع خمسةً وعشرين مسألة، ليست هذه منها ... سلَّمنا أنها منها، لكن حَصَل المُعارِضُ المانعُ من الحكم بهذه الشهادة. وبهذا التقرير يظهر لك أن من أفتى بتحريم البيع والإِجارة والشفعة في هذه البقاع، بناءً على قول مالك: إنها فُتِحَتْ عنوة، خطأ، وأنَّ هذا ليس مذهبًا لمالك، بل هي شهادةٌ لا يُقلَّد فيها، بل تجري مَجرى الشهادات. وكما يَرِدُ هذا السُّؤَالُ على المالكية في العنوة، يَرِدُ على الشافعية في قول الشافعي: إنها فُتِحَتْ صُلحًا. ويبنون على ذلك: الفتيا بالإِباحة، ويجعلون هذا مما يُقلَّد فيه، وإنما هو شهادة أيضًا بالصلح. وقد بَسطتُ هذه المسائل في كتاب "الإِحكام في الفرق بيق الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وهو كتاب نفيس، فيه أربعون مسألة من هذا النوع". انتهى. وسيأتي نقدُ قوله: لا يُقضَى بأعدلِ البنيتين في ص ٢٠٤.