(٢) الصواب أن الحنفية لا يقولون في صيَغ العقود: إنها خبر، بل هي إنشاء، كما سبق بيانه - تعليقًا في ص ٧٢ - في كلام الإِمام ابن الهمام. ثم تعميمُ المؤلف بأن الحنفية يُقدِّرون في تلك الصيغ ضرورةَ تصديقها: غيرُ سديد. إذ الحنفية إنما يرون التقدير في بعض صِيَغ الكلام تصحيحًا له، وذلك ما يسمونه في مباحث الدلالة بدلالة الاقتضاء، وهي دلالةُ اللفظ على لازمٍ متقدمِ يتوَقَّفُ على تقديره صِدقُ الكلام أو صحَّتُه شرعًا أو عقلاً. ويُسمُّون ذلك المقدَّر: المقتضَى. والمقتضَى ما يُقدَّر ضرورةَ تصحيح الكلام. وهو على ثلاثة أضرب: ١ - ما يُقدَّرُ ضرورةَ صدقِ الكلام الخَبَري، كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "رُفعَ عن أمَّتي الخطأُ والنسيانُ وما استكرهوا عليه". فإن ظاهره أنه لا يوجد من أمته خطأ ولا نسيان ولا عملٌ أو قولٌ مستكرَةٌ عليه. والواقع أن هذه الأمور قائمة غيرُ منتفية، فلا بُدَّ إذن لصدق الخبر من تقديرٍ محذوفٍ، وهو لفظ (إثم) أو (حُكم) ليستقيم الكلام، ويكون المعنى: (رُفعَ عن أمتي إثمُ الخطأ، أو حُكمُ الخطأ ...). ٢ - ما يُقدَّر ضرورةَ صِحَّةِ الكلام عقلاً، نحو قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، أي اسألْ أهل القرية، فإن القرية - وهي الأرض التي عليها أبنية للسُّكنى - لا تُسأل عقلاً، وإنما يُسأل أهلُها. وكذا قول الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}. أي فَلْيَدْعُ أهلَ ناديهِ. فإنَّ النادي - وهو المكان الذي يَجلِسُ فيه القوم ويتحدثون - لا يُدعَى عقلاً، وإنما يُدعى من يكونون فيه. ٣ - ما يُقدَّرُ ضرورةَ صِحَّةِ الكلام شرعًا، كقولك لآخر: تَصدَّقْ بغَلَّةِ بُستانِك هذه عني بألف على الفقراء، وأَهْدِ قلمَك هذا إلى فلان عني بكذا، ففي هاتين الصيغتين توكيلٌ من المتكلَّم الموكَّل للمخاطب بالتصدُّق والإِهداء؛ والتصدُّق والإِهداء من الموكَّل لا يصح شرعًا إلَّا إذا كان المتصدَّقُ به أو المُهدَى مملوكًا له، فإذا قَبِلَ المخاطَبُ الوكيلُ هذا التوكيلَ منك تضمَّنَ ذلك سَبْقَ قبوله بيعَ غلَّةِ البستان لك وبيعَ القلَم الذي أشرتَ إليه، كما تضمَّن ذلك سَبْقَ نقلِ مِلكيةِ الغلَّةِ والقلم إليك، فيكون البيعُ ثابتًا بطريق الإقتضاء. =