التي دفعته بصنيعها هذا، إلى الإقدام على تأليف كتابه هذا، بعد أن ترك التأليف في علم البلاغة أكثر من ثلاثين عاماً، مع أنه في زمان ليس للعلماء فيه إلا الشر والأذى (أي في زمان لعن الأشاعرة من فوق المنابر، وقد كان عبد القاهر أشعرياً)، فلو أن هؤلاء القوم، إذ تركوا النحو، قد تركوه جملة، وإذ زعموا أن قدر المفتقر إليه القليل منه، اقتصروا على ذلك القليل، فلم يأخذوا أنفسهم بالفتوى فيه، والتصرف فيما لم يتعلموا منه. ولم يخوضوا في التفسير. ولم يتعاطوا التأويل، لكان البلاد واحداً، ولكانوا، إذا لم يبنوا لم يهدموا، وإذا لم يصلحوا، لم يكونوا سبباً للفساد، ولكنهم لم يفعلوا، فجلبوا من الداء ما أعيي الطبيب، وحير اللبيب، وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حد يئس من تلافيه، فلم يبق للعارف الذي يكره الشغب إلا التعجب والسكوت، ثم يمضي قائلاً:"ثم إنا - وإن كنا في زمان على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها، ونقل النفوس عن طباعها، وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، ودهر ليس فيه للفضل وأهله إلا لشر صرفاً، والغيظ بحثاً، وإلا ما يدهش عقولهم، ويسلبهم معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأياً عند الجميع من كانت له همة في أن يستفيد علماً، أو يزداد فهماً أو يكتسب فضلاً، أو يجعل له ذلك بحال شغلاً - فإن الألف من طباع الكريم.
وإذا كان من حق الصديق عليك - ولا سيما إذا تقادمت صحبته وصحت صداقته - أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام، وتضجرك النوائب، وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة، وتطويه طياً، فالعلم الذي هو صديق لا يحول عن العهد، ولا يدخل في الود "وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر، ولا يظن به الخيانة والمكر، أولى منه بذلك وأجدر، وحقه عليك أكبر.
ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور في قرارها وتوضع الأشياء في مواضعها، والنزاع إلى بيان ما يشكل، وحل ما ينعقد، والكشف