لتعوذوا بالله منها، لأنهم بإيثارهم الجهل بمعرفة لطائف النظم وخصائصه ودقائقه على العلم بها، في معنى الصاد عن سبيل الله والمبتغى إطفاء نور الله تعالى.
وذلك لأن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت هي: أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومحال أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيها قصب الرهان، ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل وزاد بعض الشعر على بعض، والصاد عن ذلك صاد عن أن تعرف حجة الله تعالى.
ويبدو أن تلك الطائفة التي كانت تقلل من شأن النحو - بل والشعر أيضاً - والتي كانت متمثلة في الكندي المتفلسف، وقدامة بن جعفر، وأبي الحسين بن وهب، ومتى بن يونس، قد كان لها أشباع وأتباع ظلوا إلى عصر عبد القاهر الجرجاني في مدينة جرجان يثيرون الجدل والشغب حول جدوى علم النحو، ولم يكتفوا بهذا، بل تطاولوا على كتاب الله تعالى، وتناولوه بالتفسير، دون علم منهم ببلاغته التي أعجزت فصحاء العرب وبلغاءهم، مما دعا عبد القاهر الجرجاني أن يقوم بإتمام رسالة أبي سعيد السيرافي، في الدفاع عن النحو، وكانت فرصته - بإفادته من رد أبي سعيد السيرافي على متى بن يونس - في إظهار فكرة النظم، وإبرازها إلى نظرية واضحة المعالم، بينة السمات وفي إظهار فكرة (البيان) - حقائق الأشباه، وأشباه الحقائق - (المعنى ومعنى المعنى)، وكلا النظريتين يبرز دلائل إعجاز القرآن، بعد أن كانت كلمة (النظم) تدور على ألسنة العلماء، دون أن يستطيعوا الولوج إلى أسرارها الكامنة فيها، وبعد أن كانت كلمة البيان تجري على ألسنتهم دون أن يحددوا معانيها المقصودة منها.
ولهذا يظهر عبد القاهر سر إقدامه على تأليف كتابه "دلائل الإعجاز"، مبيناً أن تلك الطائفة التي صفرت من أمر النحو وحفرت من شأنه هي