وهكذا تجد أن عبد القاهر قد أفاد من أبي سعيد السيرافي، فأبو سعيد في عبارته الموجزة جداً، أشار إلى المقدمات التي قدم بها عبد القاهر لعملية النظم، وتلك الإشارة هي قوله: كن نحوياً، لغوياً، فصيحاً، أي جارياً في أسلوبك على قواعد النحو ومقتضيات الإعراب، مختاراً لألفاظك مما تداوله الأدباء والشعراء بحيث تكون خالصة مما يستثقل على اللسان، وما يستكره في السمع، واضعاً لها في مواضعها المناسبة لها، بحيث تدل على الغرض المقصود منها أوضح دلالة.
وقول أبي سعيد السيرافي:(افهم عن نفسك ما تقول) يعني أن تدير الكلام في نفسك أولاً، بحيث تفهم ما تقول وتطئن إلى صحته وحسنه، وقوله:(ثم رم أن يفهم عنك غيرك) أن تجري الألفاظ مرتبة على حسب ترتيب معانيها في نفسك فيفهم عنك غيرك ما تقول.
وتلك هي عملية النظم التي قدم لها عبد القاهر بمقدماته الخمس.
وقد ستنتج عبد القاهر - أيضاً - من عبارته السابقة الموجزة:(فأما إذا حاولت فرش المعنى، وبسط المراد، فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة) فصلاً في دلائل الإعجاز، جاء يعقب مقدماته التي قدم بها للنظم، كما جاءت - أيضاً - في مناظرة أبي سعيد بعقب مقدماته التي أشار إليها في عبارته الموجزة السالفة الذكر، هذا الفصل قد هيأ له عبد القاهر تهيئة عظمت من شأنه، وفخمت من أمره، وهو (فصل في اللفظ يطلق والمراد به غير ظاهره) وهو ما قصده أبو سعيد السيرافي بقوله بعد أن قال: "هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به": (فأما إذا حاولت فرش المعنى، وبسط المراد) فأجل اللفظ بالروادف الموضحة، والأشباه المقربة، والاستعارات الممتعة)، وقد أسلفناك ما قاله عبد القاهر، منتفعاً بما قاله أبو سعيد السيرافي وقدامة بن جعفر، وقد كان قدامة بن جعفر.