الكلام إلا كنسج الثوب؛ ففيه إعمال للفكر، وإنعام للنظر؛ ولولا أن المنطق قاصر عن إدراك الغايات التي يصل إليها نظم الكلام؛ لما ضللت، وأعتقدت أن الله ثالث ثلاثة! .
وفي هذا الكلام ما فيه من إفحام لمن زهدوا في علم النحو، وبعث لنظريتي النظم والبيان!
وفي القرن الخامس الهجري كانت طائفتا الأشاعرة - ويمثلهما عبد القاهر الجرجاني - والمعتزلة - ويمثلها عبد الجبار - قد اختلفت حول إعجاز القرآن، فالمعتزلة يرون أن القرآن معجز بفصاحته، وأن المزية في الفصاحة راجعة إلى اللفظ، لا إلى المعنى، وتناولوا القرآن الكريم بالتفسير والتأويل من غير أن يكونوا ملمين بعلم النحو، ولا بقواعده، والأشاعرة: يرون أن القرآن معجز بنظمه، وأن المزية ليست في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، وإنما هي في الصورة الناشئة عن دقائق النظم، وخصائصه، وفروقه، وكثر الجدل والشغب حول هذا الخلاف من جانب المعتزلة، مما دعا عبد القاهر الجرجاني، إلى أن يقوم بالرد عليهم في كتابه "دلائل الإعجاز".
وليست دلائل الإعجاز، أي أدلته، إلا تلك الفروق، والخصائص والمزايا التي يحدثها النظم في الصور الناشئة عنه، وهي تلك النظرية التي استمد عبد القاهر فكرتها من مناظرة أبي سعيد السيرافي، بدليل أن الأفكار التي اشتملت عليها "الدلائل" هي نفس الأفكار التي اشتملت عليها المناظرة، كما أن ترتيب تلك الأفكار - في الدلائل - جار على نفس ترتيبها في المناظرة، وأن عبد القاهر لم يكد يأتي بفكرة أخرى في "الدلائل" غير تلك الأفكار التي استمدها من مناظرة أبي سعيد السيرافي.