" ولقد حكت طرازاً، لا يبليه الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان" فإن هذا الطراز الذي قصده، إنما هو نظرية النظم التي تفرعت عنها علوم البلاغة فيما بعد.
ومع هذا فإنك تجد البلاغيين والنقاد في العصر الحديث يكادون يجمعون على أن عبد القاهر هو صاحب نظرية النظم؛ وإن كان منهم من حاول الخروج على هذا الإجماع، بأن عبد القاهر قد استقاها من القاضي عبد الجبار الأسد أبادى قاضى قضاه الدولة البوبهية والمتوفي سنة ٤١٥ هـ، ومنهم من صرح بأن أبا سعيد قد سبق عبد القاهر إلى تلك النظرية؛ دون أن يدخل في تفاصيل هذا الأمر.
ولما قرأت مناظرة أبى سعيد، وأمعنت النظر فيها، وفى دلائل الإعجاز، وقارنت ما جاء في " المناظرة" بما جاء في " الدلائل" تبين لي ما هو أكثر من ذلك بكثير؛ وهو: أن رد أبى سعيد السيرافي على متى بن يونس - في المناظرة التي جرت بينهما -كان هو الأساس الذي بنى عليه عبد القاهرة الجرجانى كتابه:" دلائل الإعجاز؛ بل إن ما قاله أبو سعيد السيرافي - في تلك المناظرة - يعد " متناً" وضعه عبد القاهر أمامه، وجعل كتابه شرحاً لهذا " المتن"؛ والدليل على ذلك ما يلي:
أولاً: أن الأفكار التي وردت في " الدلائل" هي نفس الأفكار التي وردت في المناظرة.
ثانياً: ان تلك الأفكار قد جاءت في " الدلائل" مرتبة على حسب ترتيبها في المناظرة.
ثالثاُ: أن عبد القاهر - في الدلائل - لم يكد يأتي بأفكار جديدة لم تكن في المناظرة. وإنما قام الكتاب كله على نظرية " النظم" وشرحها؛ وإقامة الدليل على صحتها بما قرأه في كتب النقاد السابقين؛ كالوساطة للقاضي على بن عبد العزيز الجرجاني، والصناعتين؛ لأبى هلال العسكري، ونقد الشعر؛ لأبى الفرج قدامة بن جعفر.