للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن كان قلة العدد ليس شرطًا لوقوع الاستضعاف فقد يقع الاستضعاف والهزيمة مع الكثرة، والكثرة لا تغني شيئًا مع الفرقة والخذلان، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (١)، ولذلك جاء في الصحيح عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- قال: (كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (حصوا لي كم يلفظ الإسلام؟) قال: فقلنا: يا رسول اللَّه، أتخاف علينا ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة؟! قال: (إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًّا) (٢).

قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه: "يشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه- من ولاية بعض أمراء الكوفة؛ كالوليد بن عقبة؛ حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرًا، ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة. وقيل: كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرًا وحده خشية الإنكار عليه. ووهم من قال: إن ذلك كان أيام قتل عثمان؛ لأن حذيفة لم يحضر ذلك. وفي ذلك علم من أعلام النبوة؛ لما فيه من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره" (٣). قال النووي رحمه اللَّه: "فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرًا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب، واللَّه أعلم" (٤).


(١) سورة التوبة، الآية [٢٥].
(٢) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كتابة الإمام الناس، رقم: ٢٨٩٥، وفيه: (ونحن ألف وخمس مئة)، وفي رواية: (ما بين ست مئة إلى سبع مئة). ومسلم، كتاب الإيمان، باب الاستسرار بالإيمان للخائف، رقم: ١٤٩، واللفظ له.
(٣) فتح الباري، ٦/ ١٧٨.
(٤) شرح النووي على صحيح مسلم، ٢/ ١٧٩ - ١٨٠.

<<  <   >  >>