يعزى إلى منهج الدراسة أو إلى المؤسسة التعليمية، إذ هي واحدة بالنسبة لكليهما؛ فبقي إذن أن يعزى هذا الفرق في السلوك إلى أسباب أعم، تتضح أماراتها عندما نعقد موازنة أخرى، هي هذه المرة بين الطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي، وستكون هذه الموازنة مفيدة لنا فائدة كاملة لأنها تتيح لنا أن ندرك فكرة (الثقافة) في أعم مظاهرها.
فطبيب وراع لا يمكن أن يلتقيا في المكونات الخاصة التي تمليها المهنة، ومع ذلك فإن هنالك تشابهاً عجيباً في سلوكهما الخاص، هذا التشابه من أخص الأمور وأهمها في تحديد ثقافة مجتمع معين، هو يحدد في الواقع أسلوب حياة ذلك المجتمع، كما يحدد سلوك أفراده ومدى ما بينهم من تبادل في هذين الجانبين.
فلدى ميلاد المجتمع الإسلامي مثلاً كانت ثقافة هذا المجتمع جد متجانسة، متحدة الطابع عند الخليفة والبدوي البسيط، وذلك يتجلى في موقف عمر رضي الله عنه عندما خطب المسلمين غداة توليه الخلافة، فقال قولته المشهورة:((أيها الناس: من رأى منكم فيّ أعوجاجاً فليقومه)).
وكان الرد على هذه المقولة ما نطق به أحد أولئك البدو البسطاء:((والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا)).
هذا الحوار الفريد كان يطبع بطريقة رائعة أسلوب الحياة في مجتمع، اتحدت فيه حركات الفكر والعواطف ودوافع العمل؛ وفي كلمة واحدة: اتحد فيه شكل السلوك لدى الخليفة والبدوي البسيط. والواقع أن عمر في قولته تلك كان متجهاً صوب المجتمع الإسلامي، وأن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي.
وهكذا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي متجسدة في رجلين، كان موقفهما انعكاساً لأسلوب الحياة من ناحية، وتعبيراً عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى.