وبين هاتين الحالتين، بين الاستسلام التام لـ (الواقع) وبين الثورة العنيفة على أي (واقع) لا يستساغ، درجات من الخنوع والتقوقع والهروب من المسؤولية، هي بالضبط درجات الأزمة الثقافية التي يتخبط فيها المجتمع، والتي تحاول السلطات السياسية المتورطة أو الانتهازية بكل جهدها إخفاءها أحياناً، لأنها تعودت على ألا تسمي القط قطاً وأن تعيّن الخائن باسمه.
إن هذه الانتهازية وهذه التورطات وهذه (الشطارة) في إخفاء الواقع باسم (الواقعية) كلها من معدن واحد، معدن (الأزمة الثقافية)، المعدن الذي تصاغ منه كل الفاجعات وكل النكسات وكل المحاولات الفاشلة، سواء في الميدان الصناعي أو الزراعي أو الأخلاقي أو السياسي أو العسكري.
فأي إخفاق يسجله مجتمع في إحدى محاولاته إنما هو التعبير الصادق على درجة أزمته الثقافية، أو بعبارة أعم التعبير عن الأزمة التي تمر بها حضارته في تلك المرحلة من تاريخه.
وإننا نستطيع بل يجب علينا لتوضيح الأشياء من الناحية الفنية، الوقوف عند نتائج الأزمة الثقافية أو بعض نتائجها عندما تبلغ حدها الأقصى في حياة الفرد من ناحية وفي حياة المجتمع من أخرى.
إن الأزمة الثقافية تكون في ذروتها بالنسبة إلى الفرد إذا ما قدرنا أنه حرم منذ البداية مما أسميناه (الجو) الثقافي.
فماذا يحصل للفرد في هذه الحالة، أي إذا عزل عن المجتمع عزلاً كاملاً، فلم تتكون لديه أية صلة اجتماعية، حتى صلة الكلام أي تبليغ الآخرين ما نريده بالصوت؟
إن هذه الحالة حدثت في بعض الظروف الشاذة، مثلاً عندما تموت أم بجانب مولودها على حافة طريق، فحتضنه الطبيعة، فتأتي غزالة مثلاً