للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم سافر إلى حلب فلم يلتفت إليه صاحبها، فامتد إلى سنجار فمكث بها مدةً، ثم جاء إلى الموصل وإلى إربل وأقام بها قليلاً، وعاد منها إلى سنجار فاستقرّ قراره بها برهةً من الزمان.

ثم استدعاه بدر الدين أبو الفضائل لؤلؤ بن عبد الله- صاحب الموصل- سنة ثماني عشرة وستمائة ليكتب له الإنشاء في ديوانه، فقدمها ونزل بالرباط المنسوب إليهم الذي أحدثه/٢٧ ب/ أخوه أبو السعادات، ورتّب له جاريًا ورزقًا. وصار رأس الكتاب ومنشئ الدولة. وأنفذه عدّة مرات رسولاً إلى الديوان العزيز، فكان يكرم ويبجّل وينظر بعين الاحترام.

وكان مدَّة مقامه بالموصل مشتغلاً بالتصنيف، وجماعة من الناس يختلفون إليه ويقتبسون من فوائده، إلاَّ أنَّه كان كثير الحماقة متناقض الأحوال، متهوراً في أموره، سفيه اللسان جبّاهًا لمن يخاطبه ولو كان ملكًا أو سلطانًا، ممقوتًا إلى الناس، شرس الأخلاق، سريع الغضب، متكبراً في نفسه، ذا عجبٍ عظيم، وصلف زائد يتجاوز فيهما الحدّ، قليل المبالاة بالخلق لا يرى في العالم إلاَّ نفسه، فيبخس الناس حقوقهم، ويحطُّهم من أقدارهم، ويرمقهم بعين الإهمال. ومما يستدلُّ على رقاعته وتهوره أن َّ القاضي الفاضل هو الذي رفعه وقدّمه في الدولة الناصرية الصلاحية.

وكان يبلغ عصره فضلاً وفهمًا وترسلاً، وأوحد زمانه جاهًا وعلمًا ودينًا، وبه يضرب المثل /٢٩ أ/ في الكتابة وصنعة الإنشاء، يحطُّه عن منزلته وينقصه من مرتبته فكان إذا أجرى ذكره في بعض مصنفاته، يقول: حدثني عبد الرحيم بن علي البيساني، وقال عبد الرحيم لم يزد شيئًا. فانظر إلى هذا الجهل والحمق من هذا الرجل فما كان يستحق منه أن يوفيه حقّه من العلم والحرمة أن يكنّيه فضلاً عن أن يذكره بلقبه، وأيضًا من حيث أنه كان السبب في تقديمه وإيصاله.

وكان على ما أعطي من الإقتدار في الترسل والبراعة لم يكن صاحب بديهة وارتجال في الإنشاء والكتابة. وكان بطيء القريحة، جامد الخاطر، بل إنّه كان جيد الرويّة، صحيح الفكرة.

وإذا رام إنشاء كتاب يتهيأ له، ويشرع في عمله، ثمَّ يغلق حينئذ عليه باب داره،

<<  <  ج: ص:  >  >>