وقد يفعله لأن الشيخ أصغر منه سناً وإن كان ثقة فيأنف أن يذكره باسمه الواضح الصريح فتجده يكنيه وينسبه أو يذكره باسم لم يعرف به، والخطيب البغدادي يفعل هذا كثيراً في شيوخه، لا يريد بذلك تمشية الضعيف بغير اسمه، وإنما يفعل ذلك من باب التفنن في العبارة؛ لئلا يمل السامع، وبعضهم يفعل ذلك إيهاماً لكثرة الشيوخ، وأن الواحد يذكره على وجوه متعددة فيظن عدد شيوخه بعدد هذه الوجوه، ومن هنا وقع الأوهام في الجمع والتفريق، فبعض الرواة يُظن أنهم أكثر من واحد وهم في الحقيقة واحد؛ لأن من يطلع عليه يجده مرة مكنى، ومرة مسمى، ومرة منسوب إلى أبيه ومرة منسوب إلى جده، ومرة إلى قبيلته ومرة إلى مهنته، فيظنه القارئ خمسة، وهو في الحقيقة واحد، وفي هذا كتاب من أعظم ما صنف في الباب واسمه:(موضح أوهام الجمع والتفريق) كتاب عظيم خُصص قسمه الأول فيما وقع فيه إمام الصنعة البخاري من هذا النوع، قد يكون الصواب مع البخاري، وقد يكون الصواب مع الخطيب، لكنه قدم بمقدمة يتعين على كل طالب علم أن يقرأها في كتاب الموضح؛ لأنه قد يقول قائل: كيف يجرأ الخطيب على أن يتناول البخاري في توهيمه في جعل هذا الراوي اثنين، وفي جعل الاثنين واحد؟ هذا تطاول على إمام الأئمة في الصنعة، الذي هو البخاري فقدم بمقدمة يتعين على كل طالب علم أن يطلع على هذه المقدمة، وأن يتأدب بنفس الأدب الذي تأدب به الخطيب على إمامته وجلالته.
قال -رحمه الله تعالى-: "واعنِ بأن تعرف" يعني اعتنِ واهتم واجعل عنايتك منصبة إلى معرفة "ما يلتبس" ويختلط فيه الأمر "من خلة" من صفة "يُعنى بها المدلسُ".
واعنِ بأن تعرف ما يلتبسُ ... من خلة يعنى بها المدلسُ
هذه الصفة التي يعنى بها المدلس اهتم بها أنت لا لتفعل، وإنما لتقف على حقيقة الحال، ولا تغتر كما اغتر غيرك بسبب صنيع هذا المدلس.