للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التاسع عشر: أن يعلم العبد أن اللَّه سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذُلَّ معه، وأمن لا خوف فيه، وغناء لا فقر معه، ولذّة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذلُّ ويعقبه الذلُّ، والأمن الذي معه الخوف وبعده الخوف، وكذلك الغناء واللذة والفرحة والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضدّه يتعقبه ضدّه، وهو سريع الزوال، فغَلِط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله، ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل ثم يزول عنه.

والرسل إنما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم، فإن الزهد في الدنيا ملك حاضر، والشيطان يحسد المؤمن عليه أعظم حسد، فيحرص كل الحرص على أن لا يصل إليه، فإن العبد إذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو الملك حقًّا؛ لأن صاحب هذا الملك حرٌّ، والمَلِك المنقاد لشهوته وغضبه عبد شهوته وغضبه، فهو مسخَّر مملوك في زي مالك، يقوده زمام الشهوة والغضب، كما يقاد البعير.

فالمغرور المخدوع يقعُ نظره على المُلْكِ (١) الظاهر الذي صورته مُلكٌ وباطنه رقّ، وعلى الشهوة التي أولها لذة وآخرها حسرة.


= شَق سُدّ فقد سُكِر، والسِّكْرُ: ما سُدّ به.
(١) ليست في الأصل، وأثبتها من النسخ الأخرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>