ومن ثمّ جاء موقف هام آخر للقرآن، وهو أن القرآن في حديثه عن الكون جاء من حيث طريقته جامعا بين الإجمال والتفصيل، وفي هذا الحديث نجد التوافق بين القرآن والعلم قرنا فقرنا، وهنا يظهر عنصر معجز عظيم لأن القرآن في حديثه عن الكون انعتق من التأثر بما كان عليه أمر الناس من علوم ونظريات سائدة في ذلك العصر، فقد كان في عصر القرآن الكريم من يعبد الفلك ومظاهر الطبيعة مثلا، فجاء القرآن وتكلم عن الكون وعن الأفلاك كلاما علميا يتفق مع أحدث النظريات القائمة المعتمدة اليوم، ولا مصدر لهذا العلم في ذلك الوقت القصي إلا التنزيل عمن خلق الكون، ولذلك نجد أن كثيرا من مواقف القرآن الكريم يزداد على مدى الزمن وضوحا ودقة، بعد أن كان يفهم فهما إجماليا.
خذ مثلا قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ في معرض الحديث عن المطر والسحاب، وقد تبين ذلك في العلم الحديث، فالرياح التي تمطر تلقح السحاب ببعضه، إذ تتفاعل القوة الموجبة في السحاب مع القوة السالبة فيكون البرق والرعد والمطر ..
وخذ مثلا قوله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وقد فهم المتقدمون من زوجين الأمرين المتقابلين كالليل والنهار والظلمة والضياء، ولكن المعنى الأوسع هو السالب والموجب، فإن أصغر خلية في الذرة وهي الجوهر تتألف من السالب والموجب وقد جاء العلم الحديث يقرر أن مادة الكون ترجع إلى عنصر واحد هو (الطاقة) ومن الطاقة الموجبة والطاقة السالبة تتكوّن الذرة، ثم المادة.
وهكذا توصّل التقدم العلمي الحديث إلى ما سبق أن قرره القرآن منذ أربعة عشر قرنا. وهذا الموقف للقرآن من العلوم كان له أثر في تحرر الناس من الخرافة والأوهام وفي تقدم العلوم على أيدي المسلمين بعد أن كان العالم في الظلمات حتى تتلمذ العالم قرونا على يد المسلمين الذين منهم انبثقت الشعلة، وإنا لنرجو أن تحقق هذه الأمة بتقدمها الخلقي الديني وما ينبثق عنه