[السنن والآداب مظهر من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان]
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب)، رواه البخاري ومسلم، والإمام مالك في موطئه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.
وفي رواية: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء)، وانتقاص الماء: هو الاستنجاء.
قال زكريا: قال: مصعب: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة.
وبعض العلماء قالوا: لعل هذه التي نسيها هي الختان؛ لأنها أولى، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة) يوضح معنى قوله: (الفطرة خمس).
وهذا يعني أن الفطرة لا تنحصر في خمس أو عشر، فهذه هي بعض خصال الفطرة، وحديثنا على خصال الفطرة لا يقتصر على مجرد أبواب من الفقه، وإنما هي إطلالة على مظاهر تكريم الإسلام لهذا الإنسان.
وإذا تأملت نظرة الإسلام إلى الإنسان وتكريمه واحترامه، تجد فيها مصداق قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:٧٠]، فما هو في الحقيقة إلا مظهر من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان، وتعظيم حرمته، ورفع شأنه ومكانته.
وهذه الآداب والسنن كانت تنتشر مع الإسلام حيثما انتشر وسطع نوره في آفاق الدنيا، كما هو الحال في أوروبا؛ حيث إن الأوروبيين لم يكونوا يعرفون عادة الاستحمام الذي يعتبر شيئاً طبيعياً جداً عند المسلمين، ولم يكن الأوربيون يظنون أن الإنسان يمكن أن يستحم في بيته.
فتزامن انتشار عادة الاستحمام في الغربيين مع الوجود الإسلامي في الأندلس -تلك الجنة المفقودة- لما كان الطلاب الأوربيون يفدون إلى الأندلس ليتعلموا من المسلمين، كانوا يقتبسون منهم من الفضائل هذه العادات وهذه النظافة، فهم يعترفون بهذا، وكثيراً ما يتحدثون، بل حتى هذا الزمان الذي نعيش فيه أجريت عدة إحصائيات ودراسات في فرنسا، فوجدوا أن أغلب الفرنسيين لا يستحمّون مرة واحدة في العام، ثم قال الباحث -وهو كافر مشرك-: إن هذا هو سر تفوق الفرنسيين في صناعة العطور، حتى يكتموا بها رائحتهم الخبيثة؛ التي تتراكم خلال سنة كاملة.
حتى أنك إذا نظرت في الأحواض عندهم في كثير من البلاد -كألمانياً مثلاً أو غيرها- تجد أن الحوض عبارة عن خلاط ماء لا يختلط فيه الماء الساخن بالبارد، لكن الحوض يكون فيه سدادة، ثم ماسورة مستقلة للماء البارد، وماسورة مستقلة للماء الساخن.
وقد تستغرب كيف تستعمل هذا الماء؟ حتى إن الإنسان أحياناً يحار كيف يتوضأ؟ لأنك إذا استعملت الماء البارد يكون بارداً جداً، وإذا استعملت الماء الساخن يكون ساخناً جداً، وكلاهما لا تستطيع أن تستعمله، فهم يفعلون ذلك؛ لأن النظافة عندهم هي أن أحدهم في الصباح إذا أراد أن يغسل وجهه يملأ الحوض بالماء، ويخلطه في نفس الحوض، ثم يغسل وجهه فيه، وانتهى كل شيء!! هذه هي النظافة عندهم، بل يسخرون أحياناً من المسلمين لما هم عليه من آداب التخلي والاستنجاء والتنظف التي لا يعرفون لها معنى.
وهذا من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان، وهذا السلوك الذي عليه الأوروبيون أو الغربيون الكفار ربما يكون صدىً لكلام أسلافهم الذين مضوا من قبل، وقد تكرر تصادم الديانة النصرانية المحرفة مع الفطرة، وكيف أنهم حمّلوا أنفسهم ما لا يحتملون، حتى أنهم صاروا يتعبدون بأن يأتي أحدهم إلى بئر ماؤه مالح ويمكث فيه ستة أشهر أو سنة، وهو يظن أن هذه عبادة، أو يحمل أحدهم ثقلاً كبيراً جداً من الحديد ويقف على رجل واحدة، وإذا أراد أن ينام يسند ظهره إلى حائط! كل هذا من تعذيب النفس الذي كان عندهم، وهذه صورة من صور التعبد التي كانت عندهم، كما اقتبسه منهم بعض الصوفية الجهلاء، فيقول أحدهم متحدثاً عن واحد من أشهر رهبانهم: إنه لم يقترف إثم غسل رجليه طول عمره! وكان بعض هؤلاء الرهبان يتحسر على عدم اتباع سيرة أسلافه الذين مضوا، فيقول: لقد أتى علينا زمان كنا نتأثم أن يغسل أحدنا ثوبه أو رجليه -ثم يقول متحسراً متأسفاً- وها نحن الآن ندخل الحمامات.
فهو يندم على هذا، ويعتبره من مظاهر الانحراف عن الجادة! الشاهد: أن هذه السنن والآداب من مظاهر تكريم الإسلام للإنسان.
إذا تأملت الإسلام من أي زاوية فإنك تجد عظمة لا مثيل لها، وتجد الأدلة قاطعة على أن هذا دين الله، ولا يمكن أن يأتي دين بأفضل مما جاء به هذا الدين، فضلاً عن أدلة صدق النبوة الكثيرة، وأدلة إعجاز القرآن وغير ذلك، لكن حتى هذه الأحكام الجزئية تجد أنها متفقة تماماً مع الفطرة، ولو تُرك الإنسان لفطرته التي فطره الله عليها فإنه سيهتدي بهذه الفطرة إلى هذه السنن، ولو لم يتعرض الإنسان لمؤثرات البيئة من حوله كتقليد الآباء والأجداد وغيرهم ممن حوله لو خُلّى عن هذه المؤثرات البيئية المنحرفة، وبقي على فطرته التي فطره الله عليها حتى لو لم يطلع على هذه الشرائع يجد بمقتضى هذه الفطرة أنه ينبغي أن يقص أظافره، ويعفي لحيته، فإن استقرت فطرته اهتدى لهذه الأشياء حتى لو لم يدله عليها أحد، إلا أن تغير هذه الفطرة السوية سببه مؤثرات البيئة الفاسدة من حوله.
إذا تأملت الإسلام من أي النواحي فإنك تجد فيه هذه العظمة، وتجد هذه النظافة وهذا التكريم للإنسان، وهذا هو معنى التكريم؛ لأن الإنسان له قيمة وحرمة عظيمة في الإسلام، فالهيئة البشرية الكاملة هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فكل ما خلقه الله تبارك وتعالى في جسد الإنسان هو فطرة الله تبارك وتعالى، ما عدا ما أمر الشرع بإزالته فإن إزالته هو الفطرة، وما شرع إلا لحكم عظيمة يعلمها الله تبارك وتعالى، فحينئذٍ الأصل أن كل هيئة خلق عليها الإنسان هي فطرة الله التي فطره عليها، فينبغي أن يحافظ عليها ولا يغيرها.
هذه الفطرة تشمل جانبين: الجانب الحسي البدني، والجانب القلبي الذي يشتمل على: العقيدة والتوحيد.
فإن الإنسان إذا خلا عن مؤثرات البيئة الفاسدة فإنه يهتدي بقلبه إلى توحيد الله تبارك وتعالى؛ لأنه مفطور على التوحيد والإقرار بالله عز وجل؛ ولذلك فإن أقوى وأسهل دليل نستطيع أن نقيمه على وجود الله تبارك وتعالى هو الفطرة؛ بحيث أن الإنسان سوي الفطرة لا يحتاج أبداً لهذا السؤال، ويجد أن قلبه يقرّ بذلك ويسلم به ويوقن به دون أن يخوض في المباحث الكلامية أو الفلسفية، فالإنسان بفطرته يهتدي إلى التوحيد، وبفطرته يهتدي إلى هذه الصورة السوية للكمال البشري، وهي الصورة التي خلقه الله عليها، إلا ما أمر الشرع بإزالته فإن إزالته هو من الفطرة.