قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: يستحب أن يكتحل وتراً، ويدهن غباً، فينظر في المرآة ويتطيب، قال حنبل: رأيت أبا عبد الله وكانت له صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط، فإذا فرغ من حزبه -أي: إذا فرغ من قراءة ورده من القرآن أو الأذكار- نظر في المرآة، واكتحل، وامتشط.
والمقصود بقوله: رأيت أبا عبد الله: هو أحمد بن حنبل؛ لأنه إذا جاء ذكر أبا عبد الله في كتاب فقه حنبلي فالمقصود به: أحمد بن حنبل، وإذا كان في كتاب فقه شافعي ذكر هذه الكنية فالمقصود: الشافعي، وإذا كان في كتاب فقه مالكي فالمقصود: الإمام مالك؛ لأن أبا عبد الله هي كنية الأئمة الثلاثة، فالإمام مالك كنيته أبو عبد الله، والإمام الشافعي كذلك، والإمام أحمد كذلك، أما الإمام النعمان بن ثابت فكنيته: أبو حنيفة، رحمهم الله أجمعين، وأحياناً يأتي في بعض كتب الفقه عبارة: وذهب إلى هذا آباء عبد الله.
يعني: الأئمة الثلاثة اختصاراً.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر؛ وينبت الشعر)، والإثمد: نوع من الأحجار التي يصنع منها الكحل، حيث يُدَقّ ويضاف إليه بعض الأشياء ويكتحل به.
وقد عثرت على عبارة للإمام القرطبي في تفسيره وهو يتكلم عن بعض هذه الآداب فيقول: وكذلك الكحل للرجال: منهم من يليق به، ومنهم من لا يليق به.
وحكم هذه الأشياء شرعاً: أنها سنة مستحبة بلا شك.
ما زلنا نبحث عن كلام لبعض أهل العلم في هذا، وما وقفت على غير عبارة الإمام القرطبي السابقة، ونحن نُقّر أن الاكتحال سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اتخاذ الشعر سنة، والمهم في هذا الأمر هو النية، أي: أن ينوي الإنسان بذلك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والآن يُستنكر إسدال الشعر غالباً؛ لأن الناس الآن تعوّدوا أن يروا إسدال الشعر من عادة النساء؛ بسبب تبرج كثير منهن، فيظهر من كان موفراً لشعره وفق السنة كأنه متشبهاً بالنساء، فلو لم يوفر شعره خشية التشبه بالنساء، مع كونه يريد أن يفعل هذه السنة، فهو يثاب عليها ولو لم يفعلها.
وكذلك في الاكتحال، فإنه نظراً للبعد عن الآداب الشرعية، فقد أصبح الكحل في مجتمعاتنا كأنه خاص بالنساء، وربما لو اكتحل الإنسان في وسط هذه المجتمعات وهو يريد الأجر باتباعه لسنّة مستحبة، فقد يوصف بأنه متشبه بالنساء كما يفهم كثير من الجهال، فيمكن أن يؤجر الإنسان إذا ترك الكحل بنيّة أن يكف ألسنة المغتابين؛ لأنهم إذا رأوه فعل ذلك، فبالتالي اغتابوه ووقعوا في معصية لله؛ لجهلهم بأن هذا من الآداب الشرعية، ويرون مثل هذا الفعل مُزرياً به، فإذا ترك ذلك ليكفّهم عن الوقوع في النميمة فهو مأجور، وينبغي للإنسان أن يراعي أيضاً حال المجتمع الذي يعيش فيه.
وفي بعض البلاد كالحجاز مثلاً تجد أن النساء عموماً محتجبات، والاكتحال عندهم شيء عادي، أما إذا وجد الإنسان أنه في مجتمع ربما يجلب عليه تطبيق السنة أشياء من المنكرات والفضائح التي تؤذيه أو تزري به، فإنه إن لم يفعل ذلك بنيّة كفّ الناس عن الوقوع فيه وغيبته، فلعله يؤجر في ذلك أيضاً كما سبق، ومع ذلك لا ننكر على من اكتحل بنية إحياء السنة أو تذكير الناس بها، فكلٌ بحسب نيته.